جاء في الأثر أن امرأة في زمان نوح عليه السلام، بكت صبيها الصغير الذي مات عن ثلاثمائة عام، فَهَوَّنَ عليها نبي الله قائلاً:" اصبري فإنه سيأتي في آخر الزمان أناسٌ يعيشون ما بين الستين والسبعين، فما تفعلي إن أدركت ذلك الزمان؟". فقالت مجيبةً متسائلة:" أيبنون؟"، أو قالت في روايةٍ أخرى:"لو أدركت ذلك الزمان لقضيته ساجدة". وكان الناس في ذلك الزمان الأول يتمتعون بأعمارٍ طويلةٍ مديدة، وبنياتٍ جسمانيةٍ عظيمة، فاستغربت المرأة متسائلةً أفتسمح تلك الأعمار القصيرة لأناس آخر الزمان أن يبنوا مساكنهم!.
هذه الواقعة عكست واحدةً من ضرورات الحياة ومكوناتها ألا وهي "السكن والمأوى"، فقد جاء في وصف الجنة التي سكنها أبوا البشرية آدم وزوجه حواء عليهما السلام آياتٌ محكمةُ بينت ضروريات وأساسيات ومقومات الحياة ولبناتها الأولية التي توفرت بأكملها في الجنة. فقد جاء في الآيات الكريمة "إن لك ألا تجوع فيها ولاتعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى" (طه 118 و 119)، هذه الضرورات كما وردت في الآية: "ألا تجوع" الطعام، الذي به قوام الحياة وعمادها ومادة بناء الأجسام. "ولاتعرى" اللباس، ويمثل واحدةً من متطلبات حياة المجتمعات التي تختلف من: مجتمعٍ لآخر، ومن فئةٍ لأخرى، ومن شعبٍ لشعب، ويختلف اللباس كذلك من أمةٍ لأمة ويتباين تماماً بتباين الزمان. "لا تظمأ" الشراب، ويمثل العنصر الركيز في الحياة، إذ هو أصلها والماء مادته الأساسية، يقول تعالى "...وجعلنا من الماء كل شئٍ حي..." (الأنبياء 30)، والماء يمثل اليوم هماً للشعوب والأمم، إذ يعتبر واحدةً من الموارد الطبيعية التي أودعها الخالق وغرس بها مادة الحياة، وأصبح يمثل واحدةً من أهم مسببات الصراع بين المجموعات والأمم والشعوب، وأضحى الأمن المائي كغيره مهماً- لا يمكن تجاوزه وتخطيه وغض الطرف عنه واهماله- مثله مثل الأمنين الغذائي والشخصي للأفراد.
والضرورة الرابعة التي أشارت إليها الآيات: "لا تضحى" السكن والمأوى، أي لا تصيبك شمس الضحى، بمعنى أن يكون لك سكنٌ يحميك ويسترك من عاديات الدهر والزمان من شمسٍ ومطرٍ وريحٍ وبردٍ وحرٍ وغيرها.
والسكن يختلف باختلاف الزمان والمكان والبيئة والتركيبة الاجتماعية للسكان، وهو في معناه البسيط: "بناءٌ ماديٌ يبعث بالشعور والإحساس بالطمأنينة والأمان والراحة والاستقرار والخصوصية ويحقق ذاتية الفرد". وتختلف مادة هذا البناء ، فهي في أبسط صورها تستخدم الأصواف والأوبار والأشعار كما جاء ذكره "... ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين" (النحل 80)، وتعتبر الجبال أعظم وأقوى مادة بناء استخدمها قوم ثمود إذ كانوا يبنون بيوتهم من الجبال " وتنحتون الجبال بيوتاً" (الأعراف 74)، ونحن اليوم ما بين الحدين نَبْنِي ونُعَمِّرْ.
وما زاد عن حاجتنا من السكن في توفير الإيواء والطمانينة، يعد من الترف المذموم، إذ السكن المتواضع البسيط يفي بالحاجة الضرورية فلا يَنُمُّ امتداد الدور واتساعها وإبراز مظاهر الترف والبطر فيها مما ليس للمرء حاجةٌ إليه، إلا عن اهتمامٍ بتعمير دار الممر والاغفال عن دار المقر.
ومما يجمل ذكره، أن رجلاً جاء الإمام علياً بن أبي طالبٍ كرم الله وجهه وأرضاه ليكتب له عقداً لمسكنٍ اشتراه، فلما رأى الإمام عظيم سرور الرجل أراد أن يذكره ويعظه بأن ما يملك لا يعدو أن يكون عرضاً زائلاً، فشرع يكتب:" اشترى ميتٌ من ميتٍ داراً في بلد المذنبين وسكة الغافلين، لها أربعة حدود: الحد الأول ينتهي إلى الموت، والثاني إلى القبر، والثالث إلى الحساب، والرابع إما إلى الجنة وإما إلى النار".
ولما كانت الوسطية ديدن أمرنا كله، فقد اعتبرت سعة الدور والمساكن من علامات هناءة المرء وسعادته في الدنيا، لما توفره رحابة الدار وبَهْوِهَا من العناصر المادية للسعادة والراحة والدعة والحبور.
علينا توفير السكن الملائم الكافي لحاجة الفرد، المحقق لإنسانيته وذاتيته. لا أن نتنافس في امتلاك الدور الفارهة الزائدة عن حاجتنا "فالموت لا شك يفنينا ويفنيها". والسكن الطيب مما أُقِرَّ بأنه حقٌ أساسيٌ مكفولٌ للفرد تقوم الحكومات بتدبير شأنه، فلا تُغْلِي على الناس أمر امتلاكه برفع أسعاره، أو ترك سوقه نهباً سهلاً للمضاربات والمزايدات، أو لقمةً سائغةً بيد الشركات الربحية، مما يُغْلِي على الناس حاجةً بسيطةً هي في متناول أيديهم ويُعَزِّزُهَا، فترتفع الأسعار فيعجز غالب الناس عن تحصيل حاجتهم من السكن الكريم، مما يُلْجِئُهُمْ إلى اتخاذ مساكن لا تتوفر فيها شروط السكن السليم المُخَطَّطْ.
وعلى الدولة أن تُهَيِّأَ للناس الأمر، فتبدأ بالتخطيط وتُذَلِّلَ التمليك وتوفر الخدمات الضرورية (المياه، الصرف الصحي، الكهرباء، منافع أخرى ضرورية)، وأن تهتم كذلك بحماية الشرائح الاجتماعية الضعيفة (العمال، المعاشيون، الأسر حديثة التكوين، النساء عائلات الأسر وغيرهم) ذات الدخول المحدودة وتراعي حقها في امتلاك المساكن المناسبة لهم الكافية لحاجتهم غير المُرْهِقَةِ لهم اقتصادياً.